”مخطط الياسمين“ انحراف بمسار ”ثورة الياسمين“

نشر النائب السابق عماد الدايمي تدوينة بصفحته بموقع التواصل الاجتماعي، يوم الاحد، مقالا بعنوان ”مخطط الياسمين“ انحراف بمسار “ثورة الياسمين”، الحلقة الثانية من سلسلة ”هل تونس بحاجة إلى مخطط تنموي جديد؟

 وهذا نصه:

مقال صدر في جريدة الصباح يوم الاحد 7 مارس 2021
عندما قامت الثورة التونسية، كان المخطط الحادي عشر للتنمية (2007- 2011) على وشك الانتهاء، وكانت الخطة التنموية للفترة (2010-2014)، التي سميت بالمخطط المتحرك، قد تمت المصادقة عليها وانطلقت في الانجاز. وكانت كلا الوثيقتين منمقتين وممتلأتين بالمؤشرات الايجابية والأرقام المزينة والأهداف الخيالية. ولم تكن فيهما أي اشارة يفهم منها إدراك لعمق الأزمة التنموية في البلاد واستشراف لإمكانية انفجار الأوضاع واستباق لذلك الانفجار باجراءات اجتماعية جدية.

فشل التنمية أهم أسباب الثورة

لا شك أن الثورة فاجأت الجميع. ولكن لا شك أيضا أن انهيار السياسات التنموية وعدم واقعية ونجاعة المخططات التنموية والفشل الذريع للمخططات المتتالية في مجالات محاربة الفقر والبطالة ورفع مستوى المعيشة وتقليص التهميش الجهوي وفك العزلة عن الجهات الداخلية وفتح الافاق للباعثين الشبان وغيرها كانت من الأسباب المباشرة لاندلاع ثورة الشعب ضد منظومة الحكم.

المنوال التنموي الجديد لم يكن على الأجندة بعد الثورة

وكان من المفروض والمنطقي أن يتجه إهتمام النخب التي انخرطت في مسار الثورة وآمنت بالتغيير إلى التفكير في منوال تنموي جديد منسجم مع روح الثورة وشعاراتها ويقطع مع سلبيات المنوال السابق. ولكن الجميع انغمس في التدافع السياسي والصراعات الايديولوجية والفكرية والخلافات حول النموذج المجتمعي والنظام السياسي. وتركوا الملف الاقتصادي التنموي بين أيدي البيروقراطية الادارية ولوبيات المصلحة الداخلية والجهات المانحة الخارجية.
وهكذا عوض أن ينطلق، بالتوازي مع الجدل السياسي، حوار وطني حول معالم المنوال التنموي الجديد لتونس الثورة، وأن تنبني على نتائج ذلك الحوار منهجية جديدة لاعداد مخطط تنموي خارق للعادة بشرعية ثورية. عوض ذلك، أقدمت حكومة المرحوم الباجي قايد السبسي المؤقتة، تحت اشراف وزير المالية جلول عياد، وبدعم من إتحاد الأعراف، على اعداد مخطط تنموي خماسي (2012-2016)، تمت تسميته ”مخطط الياسمين الاقتصادي والاجتماعي“ وشعاره ”تحويل تونس إلى سنغافورة المتوسط“.

”مخطط الياسمين“ بأيدي تونسية وتخطيط أجنبي

تم إعداد ”مخطط الياسمين“ في وقت قياسي، في غفلة من الجميع، دون إعتماد الآليات والتقاليد القديمة لادارات التنمية، وإنما بالاعتماد على خبرة مكتب دراسات دولي. وإنبثقت خطوط المخطط العريضة عن قمة مجموعة الثمانية G8 التي انعقدت في ”دوفيل“ الفرنسية في ماي 2011، والتي عوض الاعلان عن مخطط مارشال لدعم ديمقراطيات الربيع العربي الناشئة أعلنت عن الاستعداد لمنح تونس وبقية دول الربيع قروض عالية مقابل برنامج اصلاحات قاسية تحت رعاية صندوق النقد الدولي.
وانطلق المخطط من فرضيات خاطئة (نسبة نمو من 5 الى 6٪ .. الخ) ليصل إلى نتائج خيالية (خلق مليون موطن شغل ..)، عبر تعبئة 125 مليار دينار (70٪ محلية و30٪ قروض).
وتم إعتماد المخطط المذكور، في عملية استباقية، شهرا واحدا قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011.

حكومة الترويكا وفقدان الرؤية التنموية

بنت حكومة الترويكا المنبثقة عن انتخابات 2011 برنامجها الاقتصادي والاجتماعي بنسبة كبيرة على ذلك المخطط. بالنظر لافتقارها لرؤية تنموية جديدة، ولفقدانها الجرأة على مصادمة إرادة الجهات الأجنبية النافذة. ونظمت في ماي 2012 المنتدى الدولي حول “تمويل المشاريع التنموية في تونس الجديدة“. عرضت فيه على المانحين الدوليين 102 مشروعا أغلبها كانت مضمنة في مخطط ما قبل الثورة بكلفة جملية تقارب 80 مليار دولار. ولكن الحصيلة كانت ضعيفة وأدنى بكثير من الانتظارات. وخرجت الترويكا من الحكم دون تحقيق أي انجازات اقتصادية تذكر ودون أن تساهم جديا في بناء المنوال التنموي المنشود لتونس الثورة.
حكومة التكنوقراط: تخطيط تنموي بإشراف فرنسي مباشر

ثم جاءت حكومة التكنوقراط الانتقالية المنبثقة عن الحوار الوطني برئاسة المهدي جمعة، لتعلن أن من أهدافها ”العمل على استشراف منوال للتنمية يقوم على رد الاعتبار لقيمة العمل واسترجاع الثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين“. ولكن في الواقع الثقة التي سعت تلك الحكومة لاسترجاعها كانت ثقة المؤسسات المالية الأجنبية من أجل الحصول على مزيد من القروض مقابل تقديم تعهدات تتعلق باصلاحات هيكلية وسياسات تقشفية.
وبالتوازي مع ذلك، تحولت السياسة التنموية للبلاد من شأن داخلي يتم اتخاذ القرار فيه من طرف فاعلين محليين، حتى وان كانوا تحت تأثيرات أجنبية، إلى شأن أجنبي اقليمي ودولي. حيث أصبح لفرنسا بدرجة أولى نوع من الرعاية المعلنة للتوجهات التنموية الاستراتيجية في البلاد. حيث تشكلت في جويلية 2014 ”لجنة قيادة الدراسة الاستراتيجية لاعادة هيكلة وتنمية الاقتصاد التونسي“ تحت رئاسة محافظ البنك المركزي آنذاك الشاذلي العياري وبمشاركة وزير الاقتصاد والمالية حكيم حمودة والوزير المكلف بالملفات الاقتصادية في رئاسة الحكومة ورئيس ”المعهد العربي لرؤساء المؤسسات“، ولكن أيضا السفير الفرنسي بتونس ، وممثل الاتحاد الاوروبي في تونس، ومسؤول عن الخزينة العامة الفرنسية، وعن ”معهد المتوسط“ و ”المنتدى الاورومتوسطي لمعاهد العلوم الاقتصادية“ المقربين من الحكومة الفرنسية. وقامت تلك اللجنة باصدار وثيقة ”معالم استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تونس على المدى المتوسط“. وشكلت تلك الوثيقة أرضية ”المؤتمر الدولي للاستثمار في تونس الديموقراطية الناشئة“ الذي انعقد في سبتمبر 2014 برعاية رئيس الحكومة الفرنسي ومشاركة رئيسي الحكومة الجزائري والمغربي وضيوف آخرين. وتم فيها تقديم 22 مشروعا كبيرا للتمويل. ثم قامت اللجنة في 2015 باصدار ”استراتيجية اقتصاد المعرفة في تونس 2015-2020“. كما أصدرت في نفس السنة ”دراسة إعادة هيكلة الاقتصاد التونسي“ بتمويل من ”الادارة العامة للخزينة الفرنسية“.

ظلت كل هذه الدراسات غير مفتوحة للعموم. ولم تعرض أي منها على أنظار مجلس نواب الشعب. بشكل دفع للتساؤل عن سبب سريتها ومدى الزاميتها. وهو ما اضطر البنك المركزي التونسي في ماي 2020، عند احتداد النقاش بخصوصها، الى التأكيد على أن اللجنة كانت ”ذات طابع أكاديمي“ وأن مخرجاتها لم تكن ملزمة للبنك وللدولة وأنها لم تعد موجودة.

والأكيد بالنسبة لنا أن اعتماد ”مخطط الياسمين“ المسقط، وهيمنة أطراف خارجية على التخطيط التنموي للبلاد، مقابل غياب أدنى رؤية تنموية للترويكا والحكومة التي سبقتها وتلك التي خلفتها، وانعدام أي ضغط شعبي جدي، شكلت انحرافا خطيرا بمسار التنمية في البلاد بعد الثورة. وضيعت هذه العوامل على التونسيين فرصة ذهبية ل ”تأسيس“ منوال تنموي جديد في اطار تشاركي مركزي وجهوي ومحلي وقطاعي، على شاكلة ”تأسيس الدستور“.

”مخطط الياسمين“ انحراف بمسار ”ثورة الياسمين“

( الحلقة الثانية من سلسلة ”هل تونس بحاجة إلى مخطط تنموي جديد؟ )

مقال صدر…

Publiée par ‎Imed Daimi – عماد الدائمي‎ sur Samedi 27 mars 2021